مؤسسات الإعلام والتحول الرقمي.. مباراة «لم تحسم» بين المصداقية والتكنولوجيا
في ضوء انعقاد «الكونغرس العالمي للإعلام» بأبوظبي
في ظل تطور التكنولوجيا وظهور الإعلام الرقمي كأحد أهم أدوات الاتصال الحديثة، تواجه المؤسسات الإعلامية التقليدية والإعلام الجديد العديد من التحديات المرتبطة بالتحول الرقمي، والتي تشمل الجوانب التقنية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية، وتؤثر على كيفية إنتاج وتوزيع واستهلاك المحتوى الإعلامي.
واستجابة لهذه التحديات الفارقة في بيئة العمل الصحفي والإعلامي، تعقد النسخة الثالثة من الكونغرس العالمي للإعلام في الإمارات، خلال الفترة من 26 إلى 28 نوفمبر الجاري، تحت شعار "الرؤية، التمكين، التفاعل"، لتطوير المواهب واكتساب مهارات جديدة وتعزيز الخبرات في التعامل مع التحديات الإعلامية الجديدة وكيفية استخدام آليات الذكاء الاصطناعي.
ويعد التغير في نماذج الأعمال والتمويل أحد أبرز التحديات التي تواجه صناعة الصحافة والإعلام، حيث تحول قطاع كبير من الإعلانات إلى المنصات الرقمية مثل Google وFacebook، مقابل تراجع الإيرادات التي كانت تعتمد عليها المؤسسات الإعلامية التقليدية.
ورغم اعتماد بعض وسائل الإعلام على الاشتراكات المدفوعة، فإن العديد منها لا يزال يواجه صعوبات وتحديات في جذب جمهور مستعد للدفع مقابل الاطلاع على المحتوى، لا سيما أن ظهور المدونات ومنصات البث المباشر ومواقع التواصل الاجتماعي جعل من السهل على الأفراد والمؤسسات الصغيرة إنتاج محتوى ينافس وسائل الإعلام التقليدية.
ووفق مؤسسات بحثية إعلامية، تغيرت أولويات الجمهور، حيث بات يفضل المحتوى السريع والبسيط بدلاً من التحليلات العميقة، ما يضع ضغطًا على مؤسسات الإعلام التقليدية لتكييف استراتيجياتها ومحتواها ليتناسب مع الشاشات الصغيرة وأساليب التصفح السريعة.
وكنتيجة لاهتمام الإعلام الرقمي بالسرعة الفائقة في نشر المحتوى، تراجعت معايير الدقة والتحقق، ما أسهم نوعا ما في نشر الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة والذي يمثل تحديًا كبيرًا، حيث يتم تداولها بسرعة أكبر من الحقائق، ما يُفقد الجمهور الثقة بالإعلام الرقمي.
وأضاف التغير في عادات استهلاك المحتوى إلى ما يسمى في الإعلام بـ"التخصيص والتجزئة"، حيث يفضل الجمهور يفضل المحتوى المتخصص الذي يلائم اهتماماته الشخصية، ما يجعل من الصعب على الإعلام التقليدي تقديم محتوى عام يجذب الجميع أو يلبي تطلعات كل القراء.
تحديات مزدوجة
ويتطلب التحول الرقمي استثمارات كبيرة في البنية التحتية التكنولوجية لوسائل الإعلام التقليدية، مثل تطوير مواقع إلكترونية وتطبيقات، وتوفير محتوى متعدد الوسائط (نصوص، فيديو، صوت)، إلى جانب توافر الأمن السيبراني، للحد من تهديدات الهجمات الإلكترونية واستهداف البيانات أو تعطيل الخدمات الإعلامية.
ويعد ضعف الكفاءات الرقمية وعدم وجود كفاءات مدربة بشكل كافٍ للتعامل مع التكنولوجيا الحديثة أحد أبرز التحديات التي تواجه المؤسسات الإعلامية، حيث يتطلب الأمر تدريبا مستمرا للصحفيين والعاملين في القطاع الإعلامي لمواكبة التحولات الرقمية.
وتعتمد معظم منصات الإعلام الرقمي على خوارزميات تحدد ما يراه المستخدمون، ما قد يؤدي إلى تعزيز الانحيازات الشخصية أو السياسية، حيث يجعل الإعلام الرقمي الجمهور شريكًا في صناعة المحتوى من خلال التعليقات والمشاركات، ما يضع ضغوطًا إضافية على المؤسسات الإعلامية لتلبية توقعات الجمهور والتفاعل معهم.
على الجانب الآخر، يأتي التوازن بين الحرية والمسؤولية في مقدمة التحديات التي تواجه الإعلام الرقمي، إذ تفرض السرعة في تقديم المحتوى عدم الالتزام بالدقة والموضوعية والوقوع في مأزق تداول معلومات مضللة أو مزيفة أو التورط في نشر خطاب يدعو إلى التحريض على العنف والكراهية.
ويواجه الإعلام الرقمي أيضا عدة تحديات تنظيمية وقانونية، إذ يتجاوز الحدود الجغرافية والزمانية، ما يجعل من الصعب تطبيق قوانين تنظيمية موحدة، إلى جانب أن سهولة نسخ ونشر المحتوى الرقمي يطرح تحديات تتعلق بحماية حقوق المؤلفين والمؤسسات الإعلامية.
وأدى انتشار الإعلام الرقمي إلى ظهور ظاهرة الإدمان على استهلاك المحتوى، ما أثر على جودة التفاعل الاجتماعي الحقيقي، حيث يؤثر تعرض الجمهور للمحتوى المفرط (Information Overload) على قدرته على التمييز بين المصادر الموثوقة وغير الموثوق.
وإجمالا يمثل التحول الرقمي في الإعلام فرصة ذهبية للنمو والابتكار، لكنه يتطلب من المؤسسات الإعلامية التكيف مع هذه التحديات عبر تبني التكنولوجيا الحديثة والاستثمار في تطوير الكفاءات، وتقديم محتوى عالي الجودة يجذب الجمهور ويعزز الثقة، وتطوير نماذج أعمال مبتكرة ومستدامة، والالتزام بالمعايير المهنية والأخلاقية لمواجهة الضغوط التقنية والاجتماعية.
ولذا مع تطور بيئات التحول الرقمي، أصبح واجباً على المؤسسات الإعلامية التقليدية البحث عن كل الوسائل لتحسين جودة تقديم المضامين، وزيادة الكفاءة وتوفير التكاليف، وتبني رؤية أوسع تتيح الابتكار المستمر للمستحدثات التكنولوجية بشكل يلبي الاحتياجات المعرفية المتغيرة للمستخدمين.
عدالة رقمية
وقال رائد سمور، مؤسس ومدير مركز "ريفليكت" لدراسات التحول الرقمي، إن هناك تحديات إعلامية عديدة في ظل التحول الرقمي السريع، أبرزها إصرار الحرس القديم في الإعلام التقليدي على صدارة المشهد، غير أن الإعلام الجديد نسف هذه القاعدة إلى حد ما ووضع استراتيجياته الخاصة.
وأوضح سمور، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن الإعلام الجديد لا يزال يواجه تحديات تتعلق بالتدقيق والتحقق من سلامة الأخبار والصور والتسجيلات، إذ عادة ما يتهم بالتضليل والفبركة أو نشر محتوى بالذكاء الاصطناعي، والأخير هذا ليس اتهاما إذا تم استخدامه بشكل منضبط ومعلن للقراء أو المستخدمين.
وأضاف: "يجب على وسائل الإعلام الرقمي أن يكون لديها استراتيجيات تكنولوجية لدعم المحتوى، وآليات لتحقيق موارد مالية، ويسهم في تحقيق ذلك أن يكون المحتوى أصليا وحقيقيا ويبتعد عن توليد الصور أو فبركة الأحداث أو اختلاق الروايات".
ومضى قائلا: "من ضمن التحديات التي تواجه الإعلام غير التقليدي أيضا هي عدم العدالة الرقمية بين المستخدمين كافة، حيث لا يتساوى المستخدم في الولايات المتحدة مع نظيره في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إذ لدى المستخدمين في الدول المتقدمة مؤسسات خاصة تراجع شروط الخصوصية والاستخدام والنشر بخلاف المستخدمين في الدول النامية والفقيرة".
وأشار الخبير في الإعلام الرقمي إلى أن "منصات التواصل الاجتماعي تعامل المواطنين العرب أو الأفارقة معاملة الدرجة الثانية أو الثالثة، حيث لا توجد مؤسسات تحميهم أو تجبر المنصات الافتراضية على تحقيق المساواة والعدالة الرقمية".
ودعا سمور إلى ضرورة توفير مكتب خاص بالجامعة العربية مختص بمراجعة شروط النشر والاستخدام لمنصات الإعلام الجديد، لافتا إلى أن الإحصائيات الحديثة لأرباح هذه المنصات في إحدى الدول العربية تجاوزت 7 مليارات دولار.
وبخلاف ذلك لفت رائد سمور إلى سلبيات ما يُعرف بـ"الاتجار بمعلومات البشر"، والذي يتساوى مع ظاهرة الاتجار الفعلي بالبشر، قائلا: "هنا مصطلح جديد بالإعلام الرقمي يسمى بـ(رقيم السياسة) للإشارة إلى تحكم السياسة في الحالة الرقمية وتحكم تلك الحالة في السياسة".
ضعف البنية الإعلامية
وقال أستاذ الإعلام المصري والعضو السابق بلجنة حكومية لتطوير الإعلام، الدكتور صفوت العالم، إن التحديات الإعلامية عديدة في ظل التحول الرقمي، أبرزها ضعف البنية الإعلامية وتراجع المصداقية والدقة في مواجهة متاهة الأخبار الكاذبة وانتشار الشائعات والمحتوى المفبرك.
وأوضح العالم في تصريح لـ"جسور بوست" أن معظم التحديات تتمثل في التدفق الرقمي الذي بات على الإعلام التقليدي أن يجاريه في ظل كثرة وتنوع وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب مواكبة التغيرات الرقمية المتسارعة، وتوفير التمويل، والتفاعل مع المحتوى، والقدرة التسويقية.
وأضاف: "الحفاظ على أصالة المحتوى ومواجهة الأخبار الكاذبة يكون بالاستمرار في التغطية الإعلامية المعتمدة على الدقة والمهنية، والاستفادة من الأدوات الرقمية لتعزيز التفاعل مع الجمهور، وابتكار استراتيجيات جديدة للاستمرار والتمسك بالمصداقية والموضوعية".
واختتم صفوت العالم حديثه قائلا: "مستقبل الإعلام التقليدي قد يكون غير مبشر في ظل الممارسات والتحديات التي تواجهه والتي تتطلب جهدا مضاعفا للانتشار والابتكار والتواجد وسط كم هائل من المحتوى المنتشر على منصات الإعلام الرقمي".